بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين ، و خير الصلاة و أزكى التسليم على سيد الأنبياء و المرسلين محمد و على آله الطيبيبن الطاهرين
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
و بعد التحية إلى سماحة الشيخ ياسر الحبيب حفظه الله
لي سؤال بخصوص أفضلية كربلاء عن مكة المكرمة
هل أن كربلاء أفضل من مكة ؟ و ما هي آراء العلماء في ذلك ؟ و هل هي مسألة تؤثر في عقيدة الإنسان وولائه ؟ و ماذا بالنسبة إلى بعض الروايات التي تشير إلى أفضلية مكة دون سواها
يقول الشيخ المحقق علي آل محسن في كتابه ( لله و للحقيقة ) الجزء الثاني في معرض رده على الوهابيين
أما أن الكعبة ليس لها أهمية فهذا كذب صراح، كيف وهي قبلة المسلمين، وقد أطبق علماء المسلمين كافة: سنة وشيعة على أن الصلاة لا تصح إلا باستقبال القبلة وهي الكعبة المشرفة، وهذا أمر معلوم لا ينكره إلا مكابر جاهل.
وأما أن كربلاء هي أرض الله المختارة المقدسة المباركة، وهي حرم الله ورسوله، وقبْلَةُ الإسلام، فهذا افتراء واضح، وذلك لأنك لا تجد أحداً من الشيعة جوَّز استقبال كربلاء في الصلاة أو غيرها، أو وصفها بأنها أرض الله المختارة.
وحرم الله هي مكة المكرمة، وحرم رسوله (ص) هي المدينة المنورة كما نطقت بذلك الأخبار الكثيرة.
ففي صحيحة حسان بن مهران، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قال أمير المؤمنين عليه السلام: مكة حرم الله، والمدينة حرم رسول الله (ص) ، والكوفة حرمي، لا يردها جبار يجور فيه إلا قصمه الله
تهذيب الأحكام 6/12
وفي صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله (ص) : إن مكة حرم الله، حرَّمها إبراهيم عليه السلام، وإن المدينة حرمي، ما بين لابتيها حرَم، لا يعضد شجرها ـ وهو ما بين ظل عاير إلى ظل وعير ـ وليس صيدها كصيد مكة، يؤكل هذا ولا يؤكل ذاك، وهو بريد نفس المصدر
وأما الروايات التي تفيد أن كربلاء أفضل من مكة فلم أطَّلع على روايات صحيحة تدل على ذلك، وكل الروايات التي وقفت عليها في أسانيدها ضعفاء، كمحمد بن سنان، وأبي سعيد العصفري، وغيرهما ممن لم يثبت توثيقهم، فلا يمكن الاعتماد على هذه الروايات في إثبات أمر كهذا.
بل قد يستظهر من وصف مكة بأنها حرم الله، ووصف المدينة بأنها حرم رسوله (ص) أن أفضل البقاع هي مكة والمدينة
هذا مضافاً إلى دلالة موثقة سعيد بن عبد الله الأعرج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أَحبُّ الأرض إلى الله مكة، وما تربة أحب إلى الله عزَّ وجل من تربتها، ولا حَجَر أحب إلى الله من حجرها، ولا شجر أحب إلى الله من شجرها، ولا جبال أحب إلى الله من جبالها، ولا ماء أحب إلى الله من مائها
من لا يحضره الفقيه 2/162. وسائل الشيعة 9/349.
إلخ كلام الشيخ آل محسن ، ما رأيكم شيخنا في هذه القضية ، و ما هي آراء العلماء في ذلك و اتجاهاتهم ؟ و هل هي قضية يُسأل عنها الإنسان بعد موته ؟ أم أنها ليست مهمة بقدر ما تكون اختلاف في الرأي ؟
و شكراً لكم على هذه الحهود المبذولة لنصرة الدين ، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
باسمه عزّ شأنه. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أسعد الله أيامنا وأيامكم بعيد فرحة الزهراء صلوات الله عليها، جعلنا الله وإياكم من الفائزين بولايتها والبراءة من قتلتها وأعدائها.
كنا قد أشرنا في جواب سؤال سابق إلى أن الثابت هو كون كربلاء المقدسة أفضل بقاع الأرض لورود النصوص الصريحة في ذلك، ولا شك ولا ريب في كونها أفضل من مكة المكرمة، وليس ثمة معارض صريح لتلك النصوص إذ لم يرد نص في تفضيل مكة على كربلاء.
ونزيد هنا أن ثمة رواية صحيحة في نظرنا تقوّي ذلك، وهي ما رواه الثقة الجليل ابن قولويه عن محمّد بن جعفر القرشيُّ الرَّزَّاز، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن سِنان، عن أبي سعيد القَمّاط، عن عُمَرَ بن يزيدَ بيّاع السّابريّ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ”إنَّ أرض الكعبة قالت: مَن مِثلي وقد بنى الله بيته على ظَهري ويأتيني النّاس من كلِّ فجِّ عَمِيق وجُعِلتُ حَرمَ الله وأمنه؟! فأوحى الله إليها أن كفّي وقَرّي! فَوَعِزَّتي وجَلالي ما فضل ما فُضّلت به في ما أعطيت به أرض كربلاء إلاّ بمنزلة الإبرة غُمِسَت في البَحر فحملت من ماء البحر! ولولا تُربة كربلاء ما فضّلتك، ولو لا ما تضمّنتْه أرضُ كربلاء لما خلقتك ولا خلقتُ البيت الَّذي افتخرتِ به، فقرِّي واستقرِّي وكوني دَنيّاً متواضعاً ذليلاً مَهيناً غير مُستَنكفٍ ولا مُستَكبرٍ لأرض كربلاء وإلاّ سُختُ بك وهَوَيتُ بك في نار جهنّم“. (كامل الزيارات ص449).
ورجال السند كلهم ثقات، بمن فيهم محمد بن سنان، فإنّا نذهب إلى توثيقه بل تجليله كما ذهب إليه الشيخ المفيد في الإرشاد والسيد ابن طاووس والحر العاملي والعلامة الحلي والعلامة المجلسي في الوجيزة والعلامة المامقاني في رجاله وجملة من الأعاظم، اعتمادا على أكثر من دليل، والعمدة ما ورد في مدحه عن مولانا الكاظم (عليه السلام) وفيه: ”أما إنك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء. يا محمد! إن المفضل أُنسي ومُستراحي وأنت أنسهما – أي الرضا والجواد – ومستراحهما، حرام على النار أن تمسّك أبدا“ (الكافي ج1 ص319)، وكذا ما ورد عن مولانا الجواد (صلوات الله عليه) وفيه برواية علي بن الحسين بن داود قال: ”سمعت أبا جعفر عليه السلام يذكر محمد بن سنان بخير ويقول: رضي الله عنه برضائي عنه فما خالفني ولا خالف أبي قط“ (غيبة الطوسي ص209). ونحن ندفع عنه ما ذكروه في ذمّه بما ندفع به ما ورد في ذم زرارة رضوان الله تعالى عليه، على أن ذم ابن سنان لم يُنسب إلى معصوم كما الحال في زرارة. وإجمالا فإن مبنانا فيمن تعارضت فيه الأقوال من مشايخ ابن قولويه وعلي بن إبراهيم هو في ترجيح الوثاقة على الضعف، لشهادة ابن قولويه وعلي بن إبراهيم رضوان الله عليهما، وهما مَن هما.
وعلى فرض التنزل عن تصحيح هذه الرواية فإنه لا مناص من ترجيح المنطوق على المفهوم، فالمفهوم في رواية أن مكة أفضل من كربلاء إذ ورد أن: ”أحب الأرض إلى الله مكة“ (الوسائل ج9 ص349)، أما المنطوق في روايات متعددة فهو أن كربلاء أفضل من مكة بل هي ”أفضل أرض في الجنة“ (كامل الزيارات ص449 وما بعدها) على أن رواية المفهوم ليست صحيحة وغاية ما يُدّعى فيها أنها موثقة مع عدم خلو ذلك من النظر، أما روايات المنطوق فمتعددة وفيها الصحيحة ولا تخرج في مجموعها عن الاعتبار.
أما روايات أن ”مكة حرم الله“ فلا تنافي أفضلية كربلاء عليها، ولا تقوى على طرحها.
والمسألة شبيهة بجزمنا على أن مولاتنا فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) هي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وأنها أفضل من مريم العذراء صلوات الله عليها، وإن كان ذلك ترجيحا للروائي على القرآني، والروائي هو قوله صلى الله عليه وآله: ”حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون، وأفضلهن فاطمة“ (بحار الأنوار ج43 ص36) وكذلك قوله صلى الله عليه وآله: ”وأما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين وهي بضعة مني“ (أمالي الصدوق ص175)، أما القرآني فهو قوله تعالى: ”وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ“. (آل عمران: 43). وإنما ترجّح الروائي على القرآني، لأن الروائي منطوق والقرآني مفهوم بالنسبة إلى الأفضلية بين الفردين، وبدلالة قرائن من قبيل وصفه (صلى الله عليه وآله) أنها ”بضعة منه“. فكذا يصح اعتبار احتضان أرض كربلاء لجسد أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) مع ما له من الخصوصية قرينة على أفضليتها على سائر البقاع بما فيها مكة المعظمة.
هذا والمسألة ليست مما يُساءل عنه العبد، وتبقى اجتهادية يصح تباين الآراء فيها، وإن كان الاعتقاد بها - أي بأفضلية كربلاء المقدسة - مما يقرّب العبد إلى الله تعالى وإلى مواليه عليهم السلام، ويزيد في عمق ولائه.
ومع هذا الإقرار بصحة تباين الرأي فيها إلا أنه لا يجوز بحال أن يكون الدافع في الميل إلى إحدى الرأيْين - ونعني به مُدّعى أفضلية مكة - هو استرضاء المخالفين والنواصب، فإن كان هذا هو الدافع فهو إثم، وأما إن كان الدافع علميا بحتا فلا إثم إن شاء الله تعالى.
ملأ الله قلوبكم حبا وولاء للعترة الطاهرة صلوات الله عليهم. والسلام.
12 من شهر ربيع الأول لسنة 1428 من الهجرة النبوية الشريفة.